المقدمة
في السنوات الأخيرة، شهد العالم ظهور
العملات الرقمية وانتشارها بشكل واسع، وأصبحت موضوعًا شائعًا في الأوساط المالية
والاقتصادية. هذه العملات، مثل البيتكوين والإيثيريوم، تستند إلى تقنية البلوكشين
وتعد بديلاً للعملات التقليدية في العديد من المعاملات. ومع ذلك، تطرح هذه العملات
تساؤلات عديدة حول حكمها الشرعي، وهل يمكن التعامل بها من منظور إسلامي أم لا.
سنحاول في هذه المقالة تناول هذا الموضوع من خلال استعراض أقوال العلماء المعاصرين
وآرائهم الشرعية حول العملات الرقمية.
تعريف العملات الرقمية
العملات الرقمية هي نوع من العملات
التي تعتمد على التكنولوجيا الرقمية لتأمين المعاملات والتحقق منها، وهي موجودة
فقط في شكل رقمي وليست مادية. تعتمد هذه العملات على تقنية البلوكشين، التي هي
عبارة عن سجل عام وموزع يتم التحقق من صحة المعاملات وإضافتها فيه من خلال عملية
التعدين.
الأبعاد الشرعية للعملات الرقمية
تتطلب المسائل الشرعية المتعلقة
بالعملات الرقمية النظر في عدة أبعاد، منها:
القبول الشرعي كمقابل مالي: يجب أن
تكون العملات مقبولة شرعاً كمقابل مالي للمعاملات. وهذا يشمل النظر في مدى قبول
هذه العملات كوسيلة للتبادل وكيفية تحديد قيمتها.
عدم الوقوع في الربا: من أهم القواعد
في الشريعة الإسلامية هو تجنب الربا. لذا يجب التحقق من أن التعامل بالعملات
الرقمية لا يتضمن فوائد ربوية.
تجنب الغرر (المخاطرة الفاحشة): ينبغي
أن تكون المعاملات المالية خالية من الغرر الذي يتسبب في عدم اليقين والمخاطرة
الكبيرة.
عدم التورط في أنشطة محرمة: يجب التحقق
من أن استخدام العملات الرقمية لا يتضمن أنشطة محرمة شرعاً مثل المقامرة أو تمويل
الأنشطة غير القانونية.
أقوال العلماء حول العملات الرقمية
1. دار الإفتاء المصرية
في عام 2018، أصدرت دار الإفتاء
المصرية فتوى تُحرِّم التعامل بالبيتكوين والعملات الرقمية الأخرى. وأشارت الفتوى
إلى أن العملات الرقمية تنطوي على مخاطر كبيرة وتتسم بالغموض وعدم الاستقرار، مما
يجعلها غير مقبولة شرعًا كوسيلة للتبادل.
2. المجمع الفقهي الإسلامي
أصدر المجمع الفقهي الإسلامي التابع
لرابطة العالم الإسلامي فتوى مشابهة، حيث أشار إلى أن العملات الرقمية تتسم بالغرر
الكبير وعدم الشفافية، مما يجعلها غير جائزة شرعًا في معظم الحالات. وأكد المجمع
على ضرورة وجود ضوابط شرعية واضحة لاستخدام هذه العملات.
3. هيئة كبار العلماء في السعودية
تُعد هيئة كبار العلماء في السعودية من
بين الهيئات التي تناولت موضوع العملات الرقمية بحذر. وأشار بعض أعضائها إلى ضرورة
التعامل بحذر مع هذه العملات نظراً لعدم استقرارها وارتباطها بأعمال قد تكون
محرمة.
4. مجمع الفقه الإسلامي الدولي
أصدر مجمع الفقه الإسلامي الدولي
بيانًا أشار فيه إلى ضرورة إجراء المزيد من الدراسات والبحوث حول العملات الرقمية،
مشيرًا إلى أن الحكم الشرعي يتطلب فهمًا عميقًا للتقنية والأسس التي تقوم عليها
هذه العملات. وأكد المجمع على أهمية وجود إطار تنظيمي يحدد كيفية التعامل مع هذه
العملات.
دراسات فقهية حول العملات الرقمية
1. دراسة الدكتور علي السالوس
أجرى الدكتور علي السالوس، وهو أحد
أبرز علماء الفقه الاقتصادي، دراسة معمقة حول العملات الرقمية. وأشار في دراسته
إلى أن العملات الرقمية تحمل مخاطر كبيرة من حيث التلاعب والتقلبات الحادة في
قيمتها، مما يجعل من الصعب قبولها شرعًا كوسيلة للتبادل دون وجود ضوابط وتنظيمات
واضحة.
2. دراسة الدكتور محمد الزحيلي
قام الدكتور محمد الزحيلي، وهو أستاذ
في الفقه الإسلامي، بدراسة تناولت العملات الرقمية من منظور الشريعة. وأكد في
دراسته على ضرورة التمييز بين العملات الرقمية ذات القيمة المستقرة والتي تعتمد
على أصول حقيقية، وبين تلك التي لا تستند إلى أي أصول وتتسم بالمضاربة العالية.
وأشار إلى إمكانية قبول العملات الرقمية المستقرة بشرط وجود ضوابط صارمة.
التوصيات والمقترحات
ضرورة إجراء المزيد من الدراسات: نظرًا
لحداثة الموضوع وتعقيده، يجب على المؤسسات الدينية والاقتصادية إجراء المزيد من
الدراسات لفهم الأبعاد الشرعية للعملات الرقمية بشكل أعمق.
وضع ضوابط شرعية واضحة: من المهم وضع
ضوابط شرعية واضحة للتعامل بالعملات الرقمية، تشمل تحديد أنواع العملات المقبولة،
وآليات التحقق من قيمتها، والتأكد من عدم ارتباطها بأنشطة محرمة.
التعاون بين الجهات الدينية
والتنظيمية: يجب على الجهات الدينية التعاون مع الهيئات التنظيمية والمالية لضمان
وضع إطار تنظيمي متكامل يضمن الاستخدام الشرعي والآمن للعملات الرقمية.
التوعية والتثقيف: يجب على العلماء
والدعاة نشر الوعي بين المسلمين حول حكم التعامل بالعملات الرقمية وبيان المخاطر
المحتملة، لضمان اتخاذ قرارات مالية واعية ومستندة إلى الفهم الشرعي السليم.
الخاتمة
تُعد العملات الرقمية من المواضيع
الجديدة والمعقدة التي تتطلب دراسة عميقة ومتأنية من قبل العلماء والمختصين في
الشريعة الإسلامية. وعلى الرغم من أن العديد من الفتاوى الحالية تميل إلى تحريم أو
التحفظ على استخدام هذه العملات، إلا أن الحاجة إلى إجراء المزيد من الدراسات
والأبحاث تبقى ملحة. ومن المهم أيضًا وضع ضوابط شرعية واضحة وتعاون بين الجهات
الدينية والتنظيمية لضمان استخدام آمن وشرعي لهذه التكنولوجيا الحديثة.
